| 0 comments ]

"نحن في حقبة "التليفزيون المرموق"، بخيارات وجودة غير مسبوقين، فلماذا يشاهد الكثير منا مسلسلات التسعينيات الهزلية بلا توقُّف؟"

في الحلقة الإفتتاحية من مسلسل نيتفليكس الكارتونيّ الساخر "بوجاك هورسمان"، يلقي الفرس الثمل الذي يحمل الأسم ذاته خطابا عن "هورسِن أراوند Horsin Around"، مسلسل السيتكوم التفاؤليّ الذي جعل منه نجما في التسعينيات. يقول: "بالنسبة لكثيرٍ من الناس، ليست الحياة سوى ركلة واحدة طويلة قوية في الخصيتين، وأحيانا، عند عودتك إلى البيت من يوم طويل من الركل في الخصيتين، لا ترغب سوى في مشاهدة عرض عن أشخاص طيبين محبوبين، يحبون بعضهم البعض، حيث أيا كان ما يحدث، سوف يصبح كل شيء بخير في ختام الدقائق الثلاثين".

بوجاك هورسمان شيء نادر على نتفليكس، فهو: أصيل، ويحبه النقّاد، وذو شعبية جارفة. إنه في المرتبة رقم 15 ضمن عروض نيتفليكس الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة طبقا لمؤسسة التحليلات "Jumpshot" وهي أحد أفضل الأدلة لما هو شائع على منصة نيتفليكس، حيث لا تصدِر نيتفليكس إحصاءات.

لكن القي نظرة على تلك القائمة وستجد أنها تحتوي على "هورسن أراوند" أكثر من الموجود في بوجاك هورسمان. العرض الأكثر رواجا هو نسخة الولايات المتحدة من The office الذي عُرِض لتسعة مواسم على قناة NBC الأمريكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. Friends، النموذج الأصلي لبرامج السيتكوم التفاؤلية في التسعينيات (بصرف النظر عن السياسة الجنسية غير الملائمة) هو الثاني من حيث الأكثر مشاهدة على نيتفليكس. هذا الأسبوع، زُعِم أن موظَّف سابق في شركة روبرت دينيرو للإنتاج قد شاهد 55 حلقة من المسلسل في فترة واحدة مدَّتها 4 أيام. لا عجب أن نيتفليكس قد دفعت 100 مليون دولار لشركة "وارنر ميديا WarnerMedia" لشراء حق عرض المسلسل في عام 2019.

أيضا ظهر كل من Gilmore Girls، Parks and Recreation، Arrested Development، و Frasier على رأس القائمة، وهي أكثر بروزا من مسلسلات نيتفليكس الأصلية مثل Stranger Things، House of Cards، أو The Crown الذي يُقال أنه اغلى برنامج تليفزيوني على الإطلاق.
يبدو أنه في هذا الوقت الذي يتميز بالإختيار والجودة غير المسبوقين، ما يُطلَق عليه "العصر الذهبي للتليفزيون المرموق"، لا يزال معظمنا يرغب في مشاهدة عروض مدَّتها نصف ساعة عن أشخاص محبوبين بشكلٍ غامض تنتهي أمورهم كلها على خير. عرض كلاسيكي من التسعينيات، لكن ربما من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويفضَّل أن يكون شيئا رأيناه مرّات عديدة من قبل. مرحبا بكم في عصر تليفزيون اللاحدث.

يقول سياران الذي يبلغ من العمر 29 عاما ويعمل محلل سياسي في لندن: "على مدار الشهر الماضي أو نحو ذلك، كنت أشاهد أكبر قدر ممكن من حلقات Modern Family. لقد رأيت تلك الحلقات مرّات عديدة، لكنني لا أشعر بالرغبة في رؤية أي شيء آخر لأنني أحب الدفء والراحة التي يبعثها العرض. أظن أنني بدأت في إعادة مشاهدته عندما كنت أعاني أوقات سيئة في العمل. لقد أدمنت الدفء، ثم أدمنت مجرَّد الشعور بالرضا عن نفسي".

لوسي التي تبلغ 28 عاما وتعيش في لندن تشعر بالشيء ذاته تجاه Gilmore Girls. لم تحصل تلك الدراما الكوميدية المجنونة على تقييمات عالية عند بثَّها على تليفزيون الكابل الأمريكي بين عاميّ 2000 و2007، لكنها حقَّقت نجاحا كبيرا في عصر البثّ الرقميّ. تكرَّمَت نيتفليكس وكشفت قبل بضعة أعوام أنه كان عرضها الأكثر مشاهدة ضمن "سباقات المشاهدة binge-raced"، حيث استُهلِك بالكامل في غضون 24 ساعة من ظهوره على الخدمة. تقول لوسي: "أعيد مشاهدته عندما أكون مضغوطة باعتباره إلهاء ذو مستوى منخفض، ولكن أيضا للعودة إلى عوالِم مطمئنة ذات نتائج معروفة ومخاطر منخفضة".

تشغِّله، في بعض الأحيان، في الخلفية أثناء آداءها الأعمال المنزلية أو تدع نيتفليكس تشغِّله بشكلٍ تلقائي حتى تخلد للنوم. تقول لوسي أنها ماتزال تحب مشاهدة العروض المرموقة التي يتحدث عنها الجميع، لكنها تشبه إلى حدٍّ ما المأكولات الراقية مقارنة بمعكرونة Gilmore Girls. تقول: "أجد أن إعادة المشاهدة تبعث أكثر على الإرتياح، حيث لا أضطر للإنضمام إلى اللقطات الساخنة والمواضيع الإجتماعية التي تحيط بـ"المسلسل الجديد الكبير" أو القلق من حرق الأحداث. يمكنني خلق فقّاعة صغيرة وتجاهل ما حولي تماما".

غالبا ما لوحِظ أن بزوغ نيتفليكس، أمازون، Now TV، هولو، فيس بوك TV وغيرها قد فتح آفاقا للتليفزيون. ليس على الصنّاع القلق كثيرا بشأن تجنُّب التقييمات المتعثرة عندما يبدأ المشاهدون في فقدان الإهتمام. الآن وقد صار بإمكاننا إستهلاك المسلسلات وفقا لوتيرتنا الخاصة، فقد زاد بشكلٍ كبير تسامحنا مع المنحنيات السردية المعقَّدة، وطاقم الممثلين الضخم، والإستطرادات التي تستمر طوال الموسم. هناك الكثير من الأموال النقدية في وادي السليكون لتمويل البرامج أيضا. لكن بينما تركِّز محادثات حفلات العشاء على Russian Doll وBig Little Lies، تفكِّر المنصَّات بشكلٍ متزايد في الأشياء الأخرى: تليفزيون مضغ العلكة the chewing-gum TV، تليفزيون الذيل الطويل the long-tail TV، والعروض التي تضيء الغرفة بشكلٍ مُبهَم. قد تكون هذه حلقة عشوائية من مسلسل The Fresh Prince of Bel-Air التي تتحوَّل إلى حفلة طويلة في عطلة نهاية الأسبوع، أو قد تكون برنامج لتعليم الطهي من منتصف العقد الأول من القرن العشرين، محتوى إباحي ذو طابع ثقافي متوسِّطَي، أو مخلَّفات برامج التجميل التليفزيونية.

ماثيو بول، وهو أمريكي يعمل في رأس المال المُخاطِر ومعلِّق بارع على منصّات البثّ الرقمية، يدعو ذلك بـ"الحمولة". بالنسبة له، تعدّ فكرة أن "الجودة" هي التي تقود التحوُّل إلى البثّ الرقمي فكرة خاطئة. يقول: "أدَّت أكبر عروض نيتفليكس إلى زيادة عدد المشتركين وتميُّز علامتها التجارية، لكن معظم نجاحها يأتي من تمكين الجماهير من مشاهدة كمِّيات كبيرة من كل أنواع المحتوى بسهولة أينما كانوا، دون إخفاق، وبتكلفة منخفضة. لم تُستَخدَم نيتفليكس من أجل "أشياء غريبة Stranger Things"، ولكن من أجل الترفيه بشكلٍ عام".

الحمولة هي التزايد حيث تركِّز المنصَّات خوارزميّاتها وأموالها مع تصاعد حروب الإنتباه. من المحتمل أن تفقد نيتفليكس Friends والنسخة الأمريكية من The Office -وهي مجتمعة تزيد حلقاتها عن 400 حلقة من تليفزيون اللاحدث- حيث تُطلِق كلٍ من WarnerMedia وNBC، مالكيهما، منصّتها الخاصة في مرحلةٍ ما في العامين المقبلين. من المقرَّر أن تطلِق Apple خدمة بثّ في الخريف، وقد أنفقت 6 مليار دولار على برامج جديدة، بما في ذلك مسلسل دراميّ من بطولة ريس ويذرسبون وجينيفر أنيستون في دوريّ مضيفيّ برامج تليفزيونية متحاربين. لكن، رغم أن الجمهور يأتي من أجل الأشياء الجديدة اللامعة، فإنه يبقى من أجل الأشياء القديمة الموثوقة مثل ساينفيلد الذي نشبت من اجله حرب مزايدة. تُطلَق Disney+ في الخريف، ولأن ديزني تملك بيكسار، ستاروورز، وسلاسل أفلام مارفل، فإن هذا يمثل الكثير من "الحمولة".

يعتقد بول أن نيتفليكس كانت ستحقِّق مستويات مماثلة من النجاح مع Friends أو بدونه، لكنه يشدِّد على أن نيتفليكس تحظى بشعبية لذات الأسباب التي جعلت من Friends شعبيّا. الأمر أن مشاهدتها سهلة. يقول بول: "ابتكارات نيتفليكس المتعلِّقة بالعرض جعلت اكتشاف المحتوى ومشاهدته في غاية السهولة، حيث تلتهم أجيال كاملة مسلسلات مثل Friends أو Golden Girls لم يكونوا ليشاهدوها سوى خلال إعادات عرض متباعدة على شبكات تليفزيونية عشوائية". هناك شيء جديد بشأن مشاهدة موسم من Friends بترتيبٍ تسلسلي بدلا من خليط من التكرارات والحلقات الفائتة. في تلك الأثناء، يمكن لمسلسل شبه منسيّ مثل Frasier أن يجد حياة جديدة في عصر البثّ الرقميّ كمتحف لثقافة قديمة.

يمثِّل كل هذا تحدِّيا إضافيّا للقنوات التقليدية بناء على الإحصائيات الجديدة لهيئة Ofcom. يشاهد الشخص البريطاني العاديّ ما يقرب من خمس ساعات يوميا من الفيديو، على التليفزيون، اللابتوب، الهواتف الجوّالة، والوسائل الأخرى. يظلّ البثّ التليفزيوني هو المسيطر -نشاهد، في المتوسِّط، ساعتين و43 دقيقة يوميّا- لكن هناك وسائل أخرى تلحق بالركب، بما في ذلك المقاطع الصوتية (30 دقيقة)، خدمات البثّ الرقميّ (26 دقيقة) ويوتيوب بعيدا يوتيوب التليفزيون (34 دقيقة).

ربما لم نعد قانعين بالإكتفاء بالإعادات العشوائية على القنوات العادية، لكن وفقا لمجلس أبحاث الجمهور the Broadcasters’ Audience Research Board (Barb) الذي جمع بيانات ساعات المشاهدة منذ 1992، فلم يكن هذا أكثر بكثير مما اعتدنا مشاهدته. قبل 25 عاما، كنا مانزال نشاهد ما يقرب من 4 ساعات من البثّ التليفزيوني يوميا، بدون حساب الساتلايت والكابل، ولا الساعات التي انقضت في مشاهدة أشرطة الفيديو القديمة.

تبدو الأرقام الكبيرة أكثر منطقية عندما تضع في الإعتبار كيفية استخدام الناس لتليفزيوناتهم. في التسعينيات، كان تليفزيون عائلتي يعمل عادة من الساعة 4 مساءا حتى الساعة 11 مساءا كل يوم، ولا أظن أننا كنا غير عاديين. كانت أختي الصغيرة تشاهد الكارتون بعد المدرسة، وبعد ذلك كنت أسيطر وأختي الكبيرة على الريموت من أجل مشاهدة مسلسليّ Home and Away و Neighbours. كانت تعرض أخبار المساء المبكرة في غرفة فارغة أثناء تناولنا العشاء، ثم تجتمع العائلة بأكملها لمشاهدة Top of the Pops أو EastEnders. في كثيرٍ من الأحيان، كان يعمل التليفزيون في الخلفية أثناء إنجاز الأعمال المنزلية أو الواجبات المنزلية، أشبه قليلا بالراديو الذي أتركه شغّالا معظم الوقت في مطبخي الآن، أو مثل مراهقين كثيرين يضبطون اليوتيوبرز على وضعية التشغيل التلقائي في غرف نومهم.

كما يقول بول، فذلك النوع من استهلاك التليفزيون لم يتغيَّر حقا، بل أصبح أكثر كفاءة. يقول: "مايزال الملايين يشاهدون التليفزيون بهذه الطريقة، لكن مع نيتفليكس Netflix وهولو Hulu. تهتم المنصّات الرئيسية بشكلٍ متزايد بكيفية تسهيل ذلك. أطلقت هولو للتو ميزة "تشغيل حلقة عشوائية" ولدى Pluto TV جدول برمجة "يكرِّر البث" حيث يمكنك ضبطه وتصفحه كما تفعل مع التليفزيون تماما. مايزال الجمهور يحب هذا". يتمثَّل الإبتكار الرئيسي في أنه بينما اعتاد المذيعون اختيار مجموعة معينة من برامج اللاحدث التليفزيونية، فإننا نختارها بأنفسنا الآن، أشبه قليلا بشاشة التوقُّف التي نختارها لأجهزة اللابتوب الخاصة بنا. ما نريده في الغالب هو شيء ممتِع ويمكن التعرُّف عليه ولا يزعجنا كثيرا بينما نكتب تغريداتنا على تويتر، نزيل الجليد، نرد على رسائل واتس آب، نقارن بين أسعار التأمين على السيّارات وأي شيء آخر لأننا نعرض شاشة مزدوجة على أجهزة اللابتوب أو الجوّال.

سيتال البالغة من العمر 38 عاما وتعيش في شمال لندن تُدرِج Friends، The Big Bang Theory، Brooklyn 99، وTow and a Half Man، بالإضافة إلى برامج طهي نيجل سلاتر وريك شتاين ضمن برامجها التليفزيونية المفضلة في فئة اللاحدث. تقول: "أنها مألوفة، وهذا مصدر للراحة في حد ذاته. هناك جرعة كبيرة من النوستالجيا. وأنت تعرف ما سيحدث بها". أحيانا، نشاهد التليفزيون لأننا نريد أن نتحمس ونندهش، لكننا نشاهده في الأغلب لأننا نريد أن نكون هادئين ومبتهجين. شخصيا، أعاني قليلا من الواقع المرير في الوقت الحالي، وقد سئمت قليلا من الأعمال الدرامية الهائلة المرموقة التي لا تبدأ قوتها إلا في الموسم الثالث. دائما ما أكون حريصا على تلقّي ترشيحات بأعمال سيتكوم مدّتها 25 دقيقة لن أجد فيها إزعاجا أكثر من مسلسلات الجريمة الحقيقية.

هيلين سنيها جامبوناثان، وهي تعمل محلِّلَة سلوكية في شركة Canvas8 لأبحاث السوق، ترى أن مثل هذه الخيارات أمر لا مفرّ منه عندما يواجه كثير منا مستويات متزايدة من التوتُّر والقلق. تقول: "لا يمكن إنكار إغراء الإسترخاء. تسمح الوسائط سهلة الإستهلاك للأشخاص بالإسترخاء على نحوٍ ليس مستحيل بكل بساطة عند التركيز بشكلٍ كامل أو حتى خلال أحلام اليقظة. إنها توفِّر نفس تأثير الأعمال اليدوية أو التمرينات الرياضية، حيث يكون لدى وعيك شيء للتركيز عليه، بينما يستريح بقيتك حقّا". يمكن أن تسميها الغفلة الواعية.

لكن مع استثناءات قليلة، مثل Brooklyn 99 المرح بلا تعقيد، فإنهم لا ينتجون أعمال سيتكوم مثل Friends أو Horsin’ Around الآن. تعتقد جامبوناثان أن شعبية عروض التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين على وجه الخصوص تخاطب الوحدة المستوطنة بين الأجيال الشابة، والتوق إلى وقت أكثر براءة. تقول: "نحن غالبا ما نفكر في كبار السن الذين يعتمدون على التليفزيون من أجل الرفقة، لكن الشباب يفعل ذلك أيضا. تحتوي الكثير من البرامج التليفزيونية الأقل بهرجة على شخصيات مألوفة في قصص يمكننا الدخول إليها والخروج منها بسهولة، تماما كما نفعل مع الأصدقاء والعائلة في العالم الحقيقي".

بالنسبة لإيما، وهي مصمِّمَة فعاليات مستقلة من مدينة مارجيت، فإن عدم وجود تقلُّبات غير متوقَّعة هو ما يعيدها إلى برامجها المفضلة: The Fresh Prince of Bel-Air، Frasier، و Parks and Recreation. تقول: "لا يوجد شيء يمنحك تفكيرا عميقا هناك. برامج مثل Line of Duty أو Killing Eve ليست كذلك". لكن أكثر ما تلتزم بمشاهدته هو The Big Bang Theory الذي كان يساعدها على الوقوع في النوم كل ليلة على مدار السنوات الخمس الماضية. تقول إيما: "أنا أحد أولئك الأشخاص الغريبين الذين يجب أن يكون لديهم ضوضاء في الخلفية خلال عملهم. دائما ما أشغِّل التليفزيون والراديو على الأقل في الوقت ذاته. أشعر أن عقلي قد تكيَّف مع كل هذا المحفِّزات الإضافية. لن أستطيع الإسترخاء إذا كان هناك صمت. إنها طريقة لإبقاء عقلي مشغولا. هكذا، عندما أذهب للنوم، يجب أن أشاهد The Big Bang Theory على وضعية التكرار وإلا سأظل مستيقظة أفكر في أشياء".

تعرف إيما مدى سوء كل تلك البرامج السوداوية على تركيزك، ومدى أهمية منح عقلك استراحة من المعلومات. تتمنى أن تتمكن من الإستماع إلى بعض الموسيقى الكلاسيكية، أو حتى الجلوس في صمت بدلا من ذلك. تقول: "لكني الآن لا أستطيع النوم بدونها". تقدِّر أنها قد شاهدت كل حلقات المسلسل حوالي 20 مرَّة. وبالنظر إلى أن هناك 279 حلقة، فهذا كثير من The of Big Bang Theory.

نُشِر في صحيفة الجارديان في 21 أغسطس، 2019.
» تابع القراءة

| 0 comments ]

إيه هي مشكلة التنوع العرقي الإجباري في السينما والتلفزيون؟

 في الفترة الأخيرة اتعرضت 3 مسلسلات أمريكية بتنتمي كلها للفانتازيا، المسلسلات دي هي: The Sandman، و House of the dragon، والمسلسل التالت هو The rings of power اللي من المفترض أنه بينتمي بشكل أو بآخر لكتابات تولكين وعالم الأرض الوسطى و The lord of the rings.

عانت المسلسلات التلاتة من استهجان فئة من الجمهور مكانش عاجبها التغيير اللي حصل في عرق أو جنس بعض الشخصيات وتحويلها لنساء أمريكيات من أصل أفريقي على سبيل المثال، ورغم الإستهجان دة، إلا أن فيه مسلسلين الجمهور بلعهم، حتى اللي معجبهمش التغييرات دي بلعوا الموضوع في رأيي، ودة لسببين:

1. لأن المسلسلين عجبوا الناس بالدرجة الكافية اللي تخليهم يتجاوزوا عن سيئاتهم، ودة يقول لنا حاجة مهمة جدا: أن الفن الجيِّد ممكن يخليك تمرر حاجات كتير بشكل ناجح.

2. لأن التغييرات اللي حصلت مكانتش حرجة، كانت من النوع اللي ممكن يخليك تتأفف شوية وبعدين تعديه عشان تكمل فرجة.

المسلسلين دول هما:


• رجل الرمل The sandman: اللي معجبنيش تماما، بغض النظر عن التغييرات اللي طرأت عليه بعد نقله من الكوميكس للشاشة.

• آل التنين house of the dragon: واللي حبيته لدرجة كبيرة وشايف إنه موفق حتى الآن.

خليني أقف شوية مع بيت أو آل التنين ومشكلته لأنها كانت بتمثِّل تصاعد استهجان الجمهور.

آل التنين:


الممثل ستيف توسان صاحب شخصية "كورليس فاليريون" كان قال تصريح أبرز مدى جهله وغباء المرحلة ككل. الشخصية اللي بيؤديها الممثل من المفترض أنها وُصِفَت في الكتب باعتبارها ذات صفات فاليرية، يعني "شعر فضي، عيون أرجوانية، وبشرة شاحبة" أي بشرة فاتحة أكثر من المعتاد.

طبعا اللي ظهر في المسلسل عكس كدة تماما.

الممثل ستيف توسان في تصريحه الصحفي قال إن: لو التنانين ممكن تطير -على أساس أن التنانين الحقيقية اللي كانت موجودة في الواقع مكانتش بتطير- فلورد فاليريون ينفع يبقى أسود! وتابع بإتهام الجمهور قائلا: الناس مبسوطة بالشعر الأبيض والعيون البنفسجية، بس مش عايزة تقبل بوجود "رجل أسود ثري"!.

التصريح دة بقدر ما كان صغير وعابر بقدر ما قال كتير أوي.

- هنا بنشوف ممثل ساذج بيهاجم فئة من الجمهور دون محاولة استيعاب دوافعها.

- وبيحاول يدَّعي أن الناس أو بعضهم بيعترض على وجوده لمجرَّد أنه "أسود وثري".

وكأن السود بيُقدَّموا في السينما والتلفزيون لأول مرة، وكأن العبودية انتهت بالأمس فقط.

- ولُبّ المسألة، مسألتنا: إنه بينفي أو لعلُّه حتى بيجهل أن الخيال له قواعد بتحكمه زيه زي الواقع، بل ربما أقسى من الواقع نفسه!

قوانين الخيال:


في نقاش في إحدى جروبات "الفانز" الأمريكية، زُلَّت قدمي كما يحدث مرَّة كل عام إلى نقاش عن الموضوع دة. قلت للفانز أن المسألة مش مسألة استبعاد عرق بعينه، لكنها مسألة خيال بتحكمه ضوابط وضعها المؤلف نفسه، وطالما تعلَّق الموضوع بجونرا الـ high fantasy فأحنا بيكون عندنا أجناس متعددة وكل جنس توضع له ملامحه بالكامل، فمشكلتي الخاصة مع لون بشرة الممثل هي نفس مشكلتي مع أي نشاز ممكن أشوفه في أي فن، مش لأن لون البشرة أسود أو برتقالي!.

أنهالت عليّا اتهامات العنصرية كما هو متوقَّع. لوهلة كنت هقول لنفسي: إحنا عالم تالت وعندنا مشاكلنا، إيه اللي جابك هنا؟ بس راجعت نفسي بدون نقاش. أنا، إحنا، جايز أوي نكون بننجو نجاة مؤقتة يومية بمساعدة الفن دة، أيّا كان نوعه. وكل ما يطرأ عليه من تغيير يخص أجندات أصحابه، بيخليك قاعد هنا وأنت بتراقب المتنفَّس بتاعك وهو بيتسدّ. ببطئ.
يمكن لحد هنا الأزمة كانت واضحة، ملمومة، ومخدتش وقت كتير ومكانتش أول مرة عامة.

طيب إيه هي مشكلة The rings of power؟

أيه اللي أجرمه المسلسل دة عشان يتعمل فيه دة كله ويعمل هو وشركة إنتاجه كل دة في مشاهديه؟

خواتم القوة (بدون سيد الخواتم):


تقريبا دي أول مرة أشوف فيها شركة إنتاج بتشنّ هجوم مضاد وعنيف على جمهور مستاء!

إنتقادات محبي تولكين وسلسلة الأفلام الأصلية مبدأتش دلوقتي بس، بل بدأت منذ الإعلان عن شراء أمازون "حقوق سيِّد الخواتم" ونيِّتها تحويل أيّا كان اللي اشترته لمسلسل تليفزيوني. كان واضح جدا تخوًّفات الـ Fans من تشويه إرث سيِّد خواتم تولكين أو بيتر جاكسون، خاصة مع عدم فهم:

"هو أمازون هتقتبس إيه بالظبط؟"

قبل ما أجاوب، خلّيني أنط نطَّة للمسلسل نفسه. إحنا شفنا 3 حلقات حتى الآن، وفيه إحساس عام بحاجة واضحة جدا، وهي إن اللي بنشوفه دة لا ينتمي لتولكين إلا من خلال أسماء بضعة شخصيات أو ملامح أجناس بعينها. غير كدة، فاللي بتشوفه دة كله مش بتاع تولكين ولا حاجة، ولا ينفع يكون بتاعه.

- عندنا جنس "الهارفوت" اللي همّا "هوبيت" بس مش هوبيت أوي، ومتقالش ولا هيتقال عنهم هوبيت طول المسلسل.

- عندنا واحد شبه جاندالف بس هو مش جاندالف وغالبا مش هنسمع الإسم دة طول المسلسل.

- وقيس على دة صفات وعادات أجناس كتير اتغيرت، زي الأورك اللي فجأة بقوا بيخافوا يمشوا في الشمس وبيحفروا أنفاق عشان يتحركوا تحتها!

طيب ليه كل دة بيحصل؟ بعيدا عن مشاكل التنوع العرقي والجنسي، بعيدا عن مستوى المسلسل ذاته.

أو: ما هي صفقة أمازون مع ورثة تولكين؟


أمازون لم تشتري حقوق رواية بعينها لتولكين، بل اشترت حقوق "ملحقات روايات سيِّد الخواتم" اللي كانت موجودة في نهاية رواية عودة الملك The return of the king واللي بيقال انها مكونة من 20 صفحة مش أكتر!

يعني أمازون اشترت أوراق بتحتوي على أسماء وتاريخ بعض الشخصيات والأماكن مش أكتر. الأخطر من ذلك هو أن أمازون محظور عليها قانونيا استخدام أي حاجة ذُكِرت في الروايات ومش موجودة في الملاحق نفسها!

فاللي حصل أن أمازون بنت قصتها الخاصة على ما هو متاح بين يديها.

أنا بتخيل أن الموضوع كان أشبه بالمسابقات التفاعلية اللي بيكون فحواها:

اكتب قصة قصيرة باستخدام الكلمات التالية:

"أورك، جالادريل، إيسلدور، إلف، ساورون"

واحشي براحتك.

طبعا من المهم ذكر أن الصفقة كانت بمبلغ 250 مليون دولار.

لكن، وإن أجاب دة عن عدم وجود علاقة كاملة بين محتوى المسلسل وأدب تولكين، دة مش هيبرِّر الكتابة السيئة وعدم الإخلاص لرؤية تولكين وقواعد الخيال اللي من المفترض أنهم بيلعبوا ضمن إطاره. من المفترض.

وعلى ذكر رؤية تولكين وعلاقتها بمشكلة التنوع العرقي في خواتم القوة:


هدف تولكين كان كتابة أساطير وطنية إنجليزية. مكانش مهتم إطلاقا ولم يكن يشغله التنوع العرقي في رواياته، كان كل هدفه كتابة أساطير مغرقة في المحلية، والحقيقة دة مش عيب إطلاقا. التنوع العرقي مش هينفع يكون هدف العمل الأدبي أو الفني، وأكثر من ذلك، من حق كل كاتب كتابة والإحتفاظ برؤيته وأن رؤيته دي تكون خاصة بيه أو بموطن نشأته.

دة اللي عمله بيتر جاكسون بحذافيره في ثلاثيته سيِّد الخواتم The lord of the rings لمّا احتفظ برؤية تولكين ونفِّذها بحذافيرها وبثّ روحها وهيبتها من خلال شاشته الكبيرة.

خلينا نفتكر مع بعض الأول تصريح بيتر چاكسون أن أمازون رفضت عرضه مساعدتهم في مسلسلهم، وهنفهم رفضوا ليه، بس نقرأ الأول بيتر جاكسون قال إيه عن رؤية تولكين وثلاثية سيِّد الخواتم:

"إحنا مكناش عاوزين نحط رسالتنا الخاصة في الفيلم، إحنا كنا عاوزين نكرَّم تولكين من خلال وضع رسالته هو في الفيلم".

بيتر جاكسون في حوار تلفزيوني قديم:




كان لازم أمازون ترفض تدخُّل بيتر جاكسون بكل الأحوال، لأن خطِّتها كانت إنجاح المسلسل (بالعافية) من خلال درع التنوع العرقي يا صديقي.

هجوم أمازون على الفانز الغاضبين لم يتوقف عند تجنيد الصحافة والإعلام والميديا، بل وصل الأمر لقفل التعليقات والتقييمات على منصتهم الخاصة كمان. وكل التصريحات عبارة عن اتهامات للجمهور بالعنصرية، حتى لو كان جمهور مش بيتناول مسألة التنوع العرقي، أي حد هيتدخل بالسلب في ما يخص المسلسل هو شخص عنصري كاره للتنوع.

من أيام، طلع أبطال من الثلاثية القديمة يدعموا المسلسل في صورة حمقاء لقطوها مع بعض، عشان نكتشف بعد كدة ان التيشيرتات اللي كانوا لابسينها عبارة عن براند بيتباع على النت!

أبطال the lord of the rings في ما يبدو صورة لدعم مسلسل the rings of power


الصورة الصغيرة دي قالت كتير برضة.

فالمسألة مش مسألة عنصرية ولا غيره، المسألة مسألة شركة بتحاول تحمي استثماراتها من خلال رشة التنوع الحمقاء في المسلسل واستخدامها كدرع للدفاع عن الكتابة السيئة السطحية الرخوة.

يعني من الآخر المسلسل فيه كتاب دين، لو راجل ارميه عـ الأرض!

فالتنوع العرقي، وإن مرّ على مضض في الفن الواقعي، مش هينفع يمر في العمل الخيالي (تصوَّر؟!) ودة للأسباب التي ذُكِرَت أعلاه بشكل متفرق:

1. للعمل الفانتازي أو الخيالي قواعد سنَّها واضعها أيّا كان ولا يجوز الحياد عنها مطلقا. عشان لمّا دة يحصل هنشوف "إلف" أسود.

2. لمّا أشوف شخصية اتغيرت من عرق لآخر، من جنس لآخر، فجأة، مش ببقى بشوف شخصية خيالية ولا تنوُّع عرقي، ولا ممثل شاطر جدا أجبر الصنّاع يختاروه:

تؤ تؤ: بشوف أجندات سياسية قدّامي، بشوف قرارات مجموعة أشخاص في غرفة مغلقة، مش بشوف عمل فنّي مفترض يمتعني، مفترض يحافظ على إندماجي في الخيال.

تعالوا نشوف تصريحات الممثلة "هالي بيلي" -آه والله هالي بيلي مش بيري، حتى أسمها مقتبس- وهي بتقول إنها بتتمنى آداءها لشخصية ليتل مارميد يكون مُلهِم للفتيات اللي في عمرها في مش عارف أفريقيا أو فين وأنهم يقدروا يكونوا أميرات هما كمان!

فيعني الموضوع مبقاش الحكاية الخرافية الملهمة الجميلة اللي شفناها زمان كبار وصغيرين. المسألة بقت أجندة محضة.
3. حماية للإستثمار كما أسلفت. هنبني جامع تحت العمارة عشان الحيّ ميجيش يهدَّها. بس.

عايز في الختام أقول ملاحظات أخيرة:

- نحن نعيش وسط أسوأ مجموعة بشرية على الإطلاق.
- جالادريل في المسلسل عايزة 100 قلم على وشها على غفلة.
- مش عارف ليه الإصرار على إن أسمه خواتم "السلطة" وليه فيه حاجة لإستخدام الكلمة دي بدلا من "القوة"، حاجة تفكر الواحد بـ"صراع" العروش.
» تابع القراءة

| 0 comments ]

 عندما أحكي قصة موت والدي، عادة ما أحكيها بالطريقة الخطأ. يسألني كثيرا من الزملاء كيف بدأت العمل في الشركة، ربما لأني واحد ممن عملوا بها طويلا فينتابهم الفضول لمعرفة كيف بدأ كل شيء، أستغل هذا السياق عادة لحكي قصة موته، يمكن أن تسير القصة بدونها بالطبع، فيمكن أن أقول:


- لقد أرسل لي هذا الصديق رابطا، ملأت بياناته، و...

لكني عادة ما أقول:

- بدأت العمل قبل مرض والدي بأربعة أيام...

تسبِّب تلك البداية اضطرابا للجميع، لأن كل واحد منهم يقول مسرعا:

- ألف سلامة.

فأكمِل بسرعة:

- هو مات!

يضطرب السامع ويطرق رأسه في أسف عادةً. يخبرني أن البقاء لله. يمكن أن أبدأ القصة بشكلٍ صحيح، مثل: لقد جئت قبل وفاة والدي واضطررت للإنقطاع إبان مرضه، لكن حاجة خفية تدفعني للسرد بشكلٍ خطِّي. حكيت تلك القصة كثيرا، حكيتها في كل مرة سمعت فيها سؤال "كيف عملت هنا؟"، لكن الحقيقة أنني في كل مرة كنت أريد حكي قصة مختلفة تماما.

هناك تلك الحاجة لأن يلقى الواحد كل ما في جيوبه قبل أن يقابل وجه كريم. لا أريد أن أموت دون أن أتخلَّص من كل شيء، إلا أن بعض الأشياء لا يسهُل التخلُّص منها، بعض الأشياء لا يجرؤ الواحد حتى على أن يقولها لنفسه، تلك الأشياء تحدث ولا تعيدها داخل رأسك ثانيةً.

ربما لهذا أحكي قصة مختلفة عمّا أريد قوله. كأني أحاول الإقتراب قدر الإمكان والبقاء بعيدا في الوقت ذاته. يعني كأنك تقف بجوار الحاتي تستنشق دخّان مشويّاته لتشبع جوعا بداخلك، ورغم ذلك، يتأجَّج في كل مرة ذلك الجوع، لا يُشبَع.

أريد أن أحكي عن الشهور الثلاثة التي سبقت موته. أريد أن أحكيها أكثر من رغبتي في حكي أي شيءٍ آخر. ربما لهذا قرَّرت تكسير تلك الشهور الثلاثة إلى قطع صغيرة وتكسير القطع الصغيرة إلى قطع أصغر وانتقاء أهونها وحكيه، ربما تُسقِط أحجار الدومينو بعضها ويصبح حكي كل شيء آخر سهلا بعد ذلك.

سوف أحكي كيف أنقذ طوني سوبرانو وساينفيلد وآخرين حياتي:

في تلك الفترة كنت قد خرجت لتوِّي من تجربة عملٍ مؤسفة. كنت قد استثمرت فيها -كعادتي- جهدا ووقتا ومشاعر وخيالا كثيرا، فصرت حطاما عندما قرر صاحب ذلك العمل تصفيته. وأنا من الجيل الأخير الذي لم يكن يعرف تماما معنى "الكارير" ولا أهمية اختياره وبناءه، فكنت أخرج من تجاربي تلك إلى صحراء يصفِّر فيها الريح. أقف في منتصف اللامكان أنظر إلى يميني ويساري فلا أجد شيئا.

غرقت في اكتئابٍ وعطلة طويلة نوعا حتى قررت أن أحاول استغلال آخر شيءٍ ظننت أني سوف ألجأ إليه:

عمل العائلة!

وعمل العائلة هنا لم يكن المافيا، ليس هذا هو البلوت تويست المنتظر. تمتلك عائلتي، في الواقع، مطعما.

لقد شهدت في هذا المكان أسوأ فترات حياتي، ربما يمكن القول أنه من صنع "السوء" في حياتي. كان -رحمه الله- يجبرني على العمل فيه منذ صغري، لا لشيء، سوى استخداما للآداة التي قرر أنه قد جلبها إلى هذا العالم من أجل هذا الغرض. تعرضت للضرب كثيرا أمام الناس فيه وتعرضت للسباب والإهانات. ورغم كل ما سبق، ليس هذا هو الجزء الأسوأ!

كان أسوأ جزء عندما قررت العودة إلى المكان الوحيد الذي كنت أهرب منه وأتمنى ألا أعود إليه أبدا.

ربما كانت تلك رغبة خفية في تجربة الطريقة "عبد الوهابية". ليس نسبة إلى الدعوة الوهابية، لكن نسبةً إلى عبد الوهاب عبد الغفور البرعي. لقد تصوَّرت، حسب تفسيري، وقتها، أنني ربما جربت كل الطرق عدا تلك الطريقة، وأنني ربما حاولت الخروج كثيرا ولم أحاول مرة واحدة العودة إلى الداخل. والمؤسف أن أبي لم يمسكني وقتها من خدودي عندما فاتحته في الطلب، بل قطَّب عن جبينه ولوى شفتيه.

خلال نحو أربعة شهور هي مدة استثماري هذا خسرت كل مدَّخراتي ووقتا وجهدا لم آتي بمثلهما قط!

كنت مخطئا تماما. مخطئا إلى درجة بشعة. مدفوعا بفكرة خيالية ونتيجة لم توجد سوى في ذهني وحدي.

940 جنيها هو الرقم الذي تبقّى معنا. 940 جنيها كل ما تبقى معنا بعد الإغلاق النهائي. كنت مطالبا بتسيير أمور البيت والبحث عن عمل والإنفاق من ذلك المبلغ على كل شيء حتى أمسك في يدي مرتب أول شهر في أي مكان.

أتذكر الرقم 15 كثيرا وكثيرا ما كنت أسخر به وسط زملائي عند طلبهم أطعمة بمبلغ أكبر من 15 جنيها. كان هذا الرقم الذي عشنا به كل يوم من أيامنا تلك، فلم يكن مسموحا أن تتخطّى مصاريفنا 15 جنيها يوميا. في تلك الفترة أيضا تشاجرنا معه كلنا، ألقى كل منا اللوم على الآخر، قلنا كل شيء حدث منذ الولادة حتى اللحظة، لقد انفجر كل شيء في تلك الفترة وكان واضحا جدا أن تفاقم الأحداث يشي بكارثة سوداء قريبة. كنا جميعا أشبه بما يحدث داخل جسده الذي عرفنا فيما بعد أن كل أعضاءه كانت تنحدر وكل شيء كان يأكل كل شيء.

في تلك الفترة عشت وأمي وأخي في حجرتنا، أقمنا فيها حياتنا وأكلنا فيها وشربنا. كنا نصحو فنأكل ونشاهد المسلسلات وننام بعد الظهيرة ونصحو ثانيةً نأكل ما تيسر أكله ونشاهد المسلسلات.

كنت مسؤولا في ذهني عن كل الأخطاء وعن محو كل الأخطاء. لكني لم أستطع أن أفعل هذا بسرعة كافية. الآن، عندما أكتب تلك الكلمات، يبدو كل هذا خيالا، وكأنه لم يحدث، تتلاحق الصور في رأسي بسرعة، أبدو فيها كممثل مسرحي ذو دورٍ ثانويّ، يدخل يقف في منتصف خشبة المسرح، يتلو سطره الوحيد ثم يخرج مسرعا.

لا أرى من تلك الفترة سواي جالسا أمام شاشة الكمبيوتر وبجواري والدتي وأخي وأمامنا ساينفيلد يجعلنا نضحك بعلو أصواتنا رغما عن كل شيء حولنا خارجنا كان أو داخلنا.
كان هذا وقت أنقذتني المسلسلات.

لم يكن هناك شيء في الخارج. لا مكان أو ناس أو وسيلة أو موضوع يمكن أن تفتح به حوارا. كنا جميعا في صدمة صامته عنوانها: كيف-وصل-بنا-الحال-إلى-هنا؟

كانت المسلسلات هي الطريقة الوحيدة للعيش إكلينيكيّا، لأنك، أحيانا، من اللازم أن تجد مكانا تذهب إليه، حتى لو كان هذا المكان مسلسل تلفزيوني.

كنت بائسا جدا، خاويا جدا، بحيث كانت "حلقة أخرى" تمثِّل هدفا عظيما. موقفا آخر لجورج كوستانزا، دَخلة أخرى لكريمر، حلم جديد لطوني. لم أكن لأستطيع الإستمرار لولاهم. كانت المسلسلات هي المهرب الذي استطعت تقديمه لأسرتي كواقع وهدف افتراضيين يمكن أن نلجأ لهم حتى أجد حلّا ما.

The Sopranos at satriale's

- ذا سوبرانوس بالذات، لأنه يسمح لي أن أكون فردا من العائلة. يدور آل سوبرانو حول عائلة مافيا مسيطرة وصراعاتها مع عائلات المافيا الأخرى وصراع أفراد العائلة الواحدة مع بعضهم البعض ومشاكل الأسرة الرئيسية في المسلسل، أسرة طوني سوبرانو. كالأب الروحي، ليس سوبرانو سوى عملا عن العائلة، يمكن بسهولة أن تنفض عنه القتل والمطاردات التي كانت قليلة في الواقع.

أستطيع بسهولة أن أفتح أي حلقة من حلقات المسلسل حتى أشعر على الفور أني كمسافرٍ عاد لتوِّه من سفره، ينظر إلى تفاصيل أشياء يألفها يشعر بحنين إليها، ثلاجة طوني، وساوس بولي، سيناريوهات كريستوفر، ولمَّة الشلَّة أمام ساتريالز.

ذا سوبرانوس هو المسلسل الوحيد الذي يمكن أن أتابعه، ليس من أجل ملاحقة حدث ما أو انتظار الكشف عن لغز.

Seinfeld at seinfeld's apartment

- ساينفيلد، لأنه العمل الذي كان يقتلني ضحكا لأنه كان يحكي عن لا شيء، ولا شيء هو ما كنت أملك، ولم أكن أريد عملا يلاحق علاقة صداقة أو علاقة رومانسية أو مسارا وظيفيّا. لقد تطرق ساينفيلد لكل ما لم يتطرق له الآخرين والعكس صحيح تماما.

هذا ولأنه "أفضل-سيتكوم-في-التاريخ". هكذا. أقولها ببطئٍ وبشكلٍ متقطِّع.

بعض الديون لا ترد، لكن يمكن أن نحكي عنها مرارا ومرارا وبطرقٍ مختلفة.

مصطفى اليماني
» تابع القراءة

| 0 comments ]

 "قُلْ لي –ولو كذباً– كلاماً ناعماً قد كادَ يقتُلُني بك التمثالُ".

نزار قبّاني

في ختام حلقتين بعينهما من مسلسليّ "باري" و"بوجاك هورسمان"، ندرك، وبشدَّة، مدى تشابه عالميهما.

في ختام الحلقة رقم 11 من موسم "بوجاك هورسمان" الأول يذهب بوجاك إلى ندوة تشارك فيها كاتبته الشبح.

لقد ارتكب بوجاك هورسمان كل الرذائل الممكنة على مدار موسم كامل، خذل كل من يعرفهم، خسر كل من بقوا بجواره، وحطَّم قلبا أو اثنين ممن تبقّى فيهما ذرات قليلة من الحب تجاهه.

بوجاك هورسمان مسلسل رسومٍ متحرِّكة بطله الرئيسي رجلٍ على شكل حصان أو حصان على شكل رجل، ومن خلال تلك الشخصية الكارتونية الخيالية تُروى الكثير من الحقائق، فبوجاك إحدى مخلَّفات هوليوود، واحد من ضمن كثيرين خذلتهم الأضواء التي لمعت في مسلسل شهير وحيد. يعيش بوجاك على بقايا تلك الشهرة وعلى سيرتها يرتكب كل الفواحش في حقه وحق الناس.

بوجاك هورسمان - الموسم الأول - الحلقة رقم 11

يمكن بسهولة أن تقع في الفخ وتظن أن المسلسل مجرَّد كارتون هزلي آخر، لكنك سوف تدرك خلاف ذلك ببطء.

في إحدى الحلقات يذهب بوجاك لزيارة صديقه مريض السرطان الذي كان سببا رئيسيّا ووحيدا في حصوله على دور البطولة في المسلسل التسعيناتي الذي جلب له الشهرة والأضواء. لقد خذله بوجاك قديما ولم يقف بجانبه في أحلك محناته، وبدلا من زيارته للإعتذار والتخفيف عنه، يزيد بوجاك الطين بلَّة وينهي اللقاء بأقبح صورة ممكنه.

مع تلك الحلقة بالذات تدرك أن بوجاك ليس شخصا سيِّئا، لكنه يتصرَّف بشكلٍ سيِّء لأنه يؤمن أنه شخص سيِّء، وتلك هي مأساته.

في الحلقة رقم 2 من موسم "باري" الثالث يدخل السيِّد كوزينو -صاحب صفّ التمثيل- بيته فيفاجأ بباري جالسا بجوار ابنه وحفيده.

هناك "باري" الذي كان قد أنهى لتوِّه خدمته في الجيش. كان باري قد اكتشف في الجيش نفسا أخرى داخل نفسه، فكان يقتل الناس ببراعة وسهولة غريبين، كان يجيد إصابة الأهداف عن بُعدٍ وقُربٍ بدمٍ بارد وسط تهليل زملاؤه وتعجُّبٍ منه، ولمّا خرج تلقّاه صديق قديم لوالده ووظَّفه في ما يجيده تماما: قتل الناس.

باري - الموسم الثالث - الحلقة رقم 2

من الغريب أن نعرف أن "بيل هادر"، مؤدِّي شخصية "باري" وواحد من مبتكري المسلسل كان يعاني عقدة مشابهه.

دخل بيل هوليوود لأنه يحب صناعة الأفلام، كان يرغب في أن يكون منتجا أو مؤلِّفا، إلا أن هوليوود حبسته داخل قفص الممثل الكوميدي، وبينما وجد بيل في "باري" فرصة لاستغلال ما يريده وليس ما يجيده، وجد "باري" في صفّ التمثيل الذي سوف يتعثَّر فيه في إحدى مهمّاته غايةً كتلك أيضا.

لكن ماضٍ كماضيه لا يختفي بسهولة، يظل ماضيه يطفح إلى السطح كمياه مجارير مسدودة ويتعامل هو معه بالرصاص ظنّا منه أنه يمكن أن يدفنه حرفيّا.

أمام الميكروفون يقف بوجاك مستعطفا ديانا مؤلفة كتابه قائلا:

- أحتاج أن تخبريني أن الأوان لم يفت. أحتاج أن تقولي لي أنني شخص جيد. أخبريني رجاءً أنني شخص جيد.

وعلى الأريكة، يجلس باري في مواجهة أستاذه السابق. كان قد ارتكب قتل كثير من ضمنه حبيبة أستاذه ذاته وكان قد اختطف أستاذه لتوّه لكنه هرب منه بأعجوبه ليجده في بيته.

- أحبك يا سيِّد كوزينو. هل تحبني؟ هل يمكن أن تقولها؟ هل يمكن أن تقولها ثانية؟

لقد أذى الإثنان أشخاص كثيرون وفي مقدمتهم الشخصين الوحيدين اللذين قدَّما لهما يد المساعدة وآمنا بهما.

يجسِّد باري وبوجاك شيئا واحدا:

تلك البئر السحيقة التي تقبع في حلكة وبرودة ظلام أرواحنا وداخلها يتقوقع كل منا على نفسه في وضع جنيني في عيوننا دموع متجمِّدة وفي قلوبنا انقباضة خوفٍ كأنه خوف الواحد منا إثر انسحاب الروح من الجسد في حناجرنا أصوات تأبى الخروج ووسط كل ذلك ننتظر خيط ضوءٍ رفيع يلقيه أكثر شخصٍ أحببناه، أكثر شخصٍ أحبنا، وأكثر شخصٍ أذيناه. أن يلقي ذلك الشخص نظرة إلينا من فوَّهة البئر ويقول لنا أننا أشخاص جيدون، أن الوقت لم يفت بالنسبة لنا بعد، وأنه يحبنا رغم كل مساوئنا، رغم أن مساوئنا تلك قد طالته.

هل يمكن أن يوجد ذلك الشخص وهل نستحق تربيته أخيرة منه؟

مصطفى اليماني
» تابع القراءة